كلنا مهاجرون

مفهوم “الهجرة” من المفاهيم الإيجابية في تراثنا الإسلامي التي أمر الله بها عباده المؤمنين إذا ضاقت بهم الأرض، “ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”، كما ركن إليها نبيّنا الكريم (صلى الله عليه و سلم) وقت الشدّة، وأمر أصحابه أن يهاجروا إلى بلاد الحبشة ثم إلى المدينة المنورة التي وصلها مهاجراً وحاكماً لسكانها الأصليين. و تعاقب على حكم المدينة المنورة بعد النبي أربعة خلفاء كلّهم من المهاجرين رغم وجود أصحاب الأرض من قبائل الأنصار الذين سبقوا مهاجري مكة في التوطن بالمدينة المنورة، بل كان لهم الفضل في نصرتهم بعد أن جار عليهم وطنهم الأصلي مكة.
 
لكن ذلك كلّه لم يكن كافياً لحصول الأنصار على امتيازات المواطنة (بالتأسيس) في دولة المدينة الفتيّة، حيث لم تكن حداثة الهجرة سبباً لمنع المهاجرين من تولي شؤون الدولة الفتية التي لم يكونوا سكانها الأصليين. ولم يكن طول مكوث الأنصار في المدينة سبباً للاستبداد بالسلطة والثروة، لذلك نجح مجتمع المدينة في حكم المعمورة خلال أربعين عاماً فقط.
 
إنّ التاريخ الإنساني مليء بقصص المهاجرين الذين حقّقوا الكثير من النجاحات في مجتمعاتهم التي هاجروا إليها وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي، بل ومشاركين في صنع النجاح في تلك المجتمعات على جميع الأصعدة، (الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية والتقنية) وغيرها، و ما الولايات المتحدة التي حكمها ابن مهاجر كيني “الرئيس أوباما” وبريطانيا العظمى التي يحكمها اليوم ابن مهاجر هندي “سوناك” إلّا أمثلة صارخة على ترحيب الأمم الناجحة بالمهاجرين، وهو ما لم يفقهه أولئك العنصريون الذين تخرجوا من تلك البلاد ليعودوا إلينا بألقاب علمية جوفاء و شهادات صفراء وظفوها في تمزيق المجتمع و ضرب وحدته الوطنية، بدلاً من بنائه على قاعدة الكفاءة والعدالة والمنافسة الشريفة بين كافّة أبناء الوطن الواحد.
 
من منّا نحن الكويتيون ليس مهاجراً؟ وأين كان أجداد ذلك المؤسّس قبل نشأة الكيان الكويتي الذي بدأ مجتمعاً صغيراً ثم تطوّر الى إمارة ثم دولة؟ وهل كان العدد القليل من سكان الكويت الأوائل قادرين على حماية كيانهم الوليد دون الاستعانة بالقبائل العربية المحيطة التي باتت اليوم تشكل غالبية المجتمع؟ وهل كانت أسرة الصباح الكريمة مهاجرة كحال باقي العوائل الكويتية؟ وهل سبقها أحد من سكان الكويت في الهجرة؟ ولماذا لم يبايع أهل الكويت من سبق آل الصباح في الهجرة إن كانت الأسبقية هي العامل الحاسم في الحصول على امتيازات خاصة للمهاجرين الأوائل؟
 
لم يستفزني يوماً خطاب الجهلاء من العنصريين الذين لا يملكون إلّا ورقة أسبقية الهجرة للمحافظة على مكتسباتهم التي يشعرون أنها مهددة بالزوال بسبب شعورهم بالعجز عن المنافسة على أساس العدالة وتكافؤ الفرص، لكن ما استفزّني حقاً هو خوض بعض المثقفين في وحل العنصرية المنتنة ليتكسبوا من خلالها على حساب وحدة المجتمع وتماسك جبهته الداخلية، رغم إدراكهم أنَّ تلك المقالة ليست إلّا دعوة للفتنة لا ينتج عنها إلّا زرع الأحقاد في النفوس بدلاً من المحبة والألفة بين أبناء الوطن الواحد.
 
إنني أشعر بالشفقة على كل من يحاول عبثاً أن يعيد عجلة الزمن إلى الوراء أو أن يتجاوز سنن التاريخ. كما أشعر بالشفقة أكثر على العنصريين من المثقفين والسياسيين وبعض المتديّنين الذين أفنوا حياتهم في العمل الوطني أو الأكاديمي او الدعوي ثم تلوثوا بوحل العنصرية في خريف أعمارهم. أحزن عليهم حينما تطغى ظلالُ مواقفهم العنصرية على جميع أعمالهم الأخرى، وأزداد حزناً وشفقةً عليهم إذا هاجروا من دار الفناء التي سكنوها (بالتأسيس) إلى دار البقاء التي لا ينفع فيها ألقاب ولا جنسية (الّا من أتى الله بقلب سليم).

د.أحمد الذايدي

شاهد أيضاً

ما بعد الطوفان.. غزة تحرر العرب

إن تأثير حرب غزة 2023 (طوفان الأقصى) على الرأي العام العالمي قد فاق جميع التوقعات …

اترك تعليقاً