محاكمة روح الأمة

تعتبر قضية دخول مجلس الامة (او اقتحام مجلس الامة ان شئت) أطول و أهم قضية سياسية في تاريخ القضاء الكويتي. فقد اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها من القضايا الأخرى منذ نشأة المحاكم الكويتية قبل ما يقرب من مائة عام. كما أن الظروف السياسية المحيطة بها والرمزية التي يحملها عدد غير قليل من المتهمين، و الاهتمام الشعبي و الإعلامي الذي حظيت به، جعلها قضية القرن بلا منازع.

فمن حيث الزمان، استمرت فصول هذه القضية ما يقرب من سبع سنوات (منذ نوفمبر ٢٠١١). و من حيث العدد اجتمع فيها سبعين متهما من خيرة رجالات الكويت من سياسيين و اكاديميين و شباب (تم انتقاؤهم بعناية من بين مئات المعتصمين داخل مجلس الأمة). أما من حيث النشاط السياسي، فجل المتهمين لهم نشاط و آراء سياسية معروفة، من بينهم ٣ نواب حاليين و ٨ نواب سابقين. و اذا عرجنا على المكانة العلمية و المهنية سنجد أن من بينهم طبيبان و ٧ يحملون شهادة الدكتوراه (٦ منهم أساتذة في جامعة الكويت بمن فيهم كاتب هذه السطور) و مدير مدرسة و مدير مستشفى، علاوة على ان جل البقية يحملون شهادات جامعية في مختلف التخصصات.

ما سبق ذكره يوضح بجلاء حجم الوعي الذي يحمله أولئك الرجال تجاه قضايا وطنهم، و مدى حبهم لذلك الوطن بحيث جعلوه مقدما على ما يملكون من مناصب و ألقاب زائلة ليبقى ذلك الوطن عزيزا نظيفا بعيدا عن الشوائب و الملوثات السياسية. و بالتالي فإن هذه المحاكمة لم تكن موجهة لشخوصهم الضعيفة بقدر ماهي موجهة للروح الإصلاحية التي تسري في عروقهم. انها محاكمة لذلك الحراك الشعبي الذي قادته تلك المجموعة و التف حوله الاحرار من أبناء الشعب الكويتي بعد فضيحة الايداعات المليونية التي احدثت زلزالا سياسيا، ما زالت إرتدادته قائمة حتى هذه اللحظة.

الأمة هي التي تحاكم اليوم لأنها انتفضت مع اولئك السبعين ضد فساد السلطة الذي لوث الحياة السياسية ولايزال، ولأنها ضغطت للأفراج عنهم بعد سجنهم الأول في ٢٠١١ ثم ضغطت للأفراج عنهم بعد سجنهم الثاني في ٢٠١٧/٢٠١٨ وها هي الأمة اليوم تراقب السلطة القضائية عن كثب قبيل إصدار حكم محكمة التمييز – بعد ساعات قليلة من الآن – لتتأكد من عدالة الأحكام التي ستصدر بحقهم.
إن السلطة، التي أرعبها الحراك السياسي الذي انطلق في نوفمبر ٢٠١١، تعلم علم اليقين انه لم يكن بمقدور اولئك السبعين اسقاط حكومة ناصر المحمد سيئة الذكر و تابعها مجلس 2009 الملوث بالفساد، دون سند شعبي. و هو ما أكدته انتخابات فبراير ٢٠١٢ حيث اكتسح تحالف المعارضة الانتخابات البرلمانية بأكثر من ثلثي الأصوات، و جاء النواب الذين يحاكمون اليوم في هذه القضية في المراكز الاولى.
هذا الخوف من الحراك السياسي المدعوم شعبيا دفع السلطة – بدلا من المسارعة لعمل الاصلاحات السياسية المطلوبة – الي اجهاض المسار الديمقراطي الذي جاء بمجلس فبراير ٢٠١٢ من خلال ابطاله وتغيير قواعد اللعبة السياسية حيث صدر مرسوم ضرورة بقانون الصوت الواحد، و تم اغلاق الصحف و القنوات المؤيدة للمعارضة، وكبلت منصات التواصل الاجتماعي، و سجن المغردون، ثم ارتكبت السلطة أحد الموبقات بسحبها جناسي بعض المعارضين لأسباب سياسية، وعلى رأسهم النائب السابق عبد الله البرغش وأسرته (البرغش كان أحد مستجوبي ناصر المحمد الذي أسقطه الشارع لاحقا).
لكن قبل اغلاق ذلك الفصل السياسي الساخن من تلك الحقبة، كان لابد من معاقبة من حرض الشارع ضد فساد السلطة ونظم الندوات في ساحة الارادة ورفع شعار” ارحل نستحق الأفضل”، فقامت السلطة بتلفيق عشرات القضايا ضد الناشطين، لكنها وجدت ضالتها في هذه القضية (دخول المجلس) التي اجتمع فيها كل من تريد السلطة النيل منهم في قفص واحد. و ها هي اليوم تقدمهم للمحاكمة النهائية بعد “جرجرتهم” في المحاكم بضع سنين، لا ليعتبروا هم، بل ليكونوا عبرة لغيرهم من الشباب ولإيصال رسالة للجيل الحالي والأجيال اللاحقة مفادها أن هذا مصير كل من يحلم بالاصلاح السياسي.
تريد السلطة أن تشعر الأمة بالانكسار والهزيمة النفسية ،فهاهم الذين تسمونهم أبطالا و مرفوعي الراس، قد حاكمناهم وسجناهم وكسرنا ارادتهم، وكذلك سنفعل بكل من تسول له نفسه مجرد التفكير بالإصلاح السياسي خارج اطار منظمومة السلطة مهما كان فسادها و فشلها ونفاق المحيطين بها.
من أجل ذلك كله كانت هذه المحاكمة موجهة ليس الى السبعين اصلاحيا، بل الى روح الأمة التي تسري فيهم و التي – ان لم يتم ردعها – قد تأتي بسعمائة او ربما سبعة آلاف غيرهم.

شاهد أيضاً

ما بعد الطوفان.. غزة تحرر العرب

إن تأثير حرب غزة 2023 (طوفان الأقصى) على الرأي العام العالمي قد فاق جميع التوقعات …

اترك تعليقاً